الأحد، 9 مارس 2008

زياد العربي-

قصة أخرى ينقلنا إليها كتاب" قضايا التجسس ضد إسرائيل«* تختلف كلية عن أي قصة عرفها عالم المخابرات لأنها قصة أحد الأطفال الذي نجح في الوصول إليى مقر قيادة رئيس هيئة الأركان الاسرائيلي ورئيس وحدة العمليات في سيناء ووزير الدفاع موشيه ديان ذاته والتجسس عليهم ونقل المعلومات إلى القاهرة.كان زياد السواركة أحد الأطفال البالغ من العمر سبع سنوات أبان نكسة عام 1967 وقتل الاسرائيليون عائلته بأكملها والعشرات من أفراد قبيلته بلا رحمة بعد اجتياحهم لسيناء في مذبحة كبرى قاموا بها في العاشر من يونيو عام 1967 بعد أن نصب عدد من أفراد قبيلته كمينا لأحد الضباط الاسرائيليين وقتلوه* ومن حسن حظه كان السواركة مع عمه محتجزين في العريش حيث منعوا من العودة إلى القبيلة بعد أن فاجأتهم الحرب هناك في الوقت الذي نفذت فيه إسرائيل مذبحتها بالقرية.غير أن السواركة لم يبك بعد عودته للقبيلة ورؤيته لجثث والده وعائلته وأصر حينها على الانتقام ممن قتلوا أصدقاءه وعائلته بلا رحمة.وعلى الرغم من صغر سنه فقد عرف معنى الانتقام وكان لا يشارك الأطفال في ألعابهم بل لوحظ أنه كان دائماً ما يحرص على الجلوس مع عمه وكبار المشايخ في سيناء عند حديثهم عن دعم المقاومة المصرية والوقوف بجانبها عند احتلال سيناء* ولاحظ عمه الذي جند لدعم المقاومة المصرية في سيناء قوة السواركة وصلابته رغم صغر سنه فقرر استخدامه في احدى العمليات التي تقوم بها المقاومة خاصة أن الإسرائيليين لن يشكوا فيه بأي حال.وكانت مهمته اللعب مع بعض الأطفال بالقرب من المواقع العسكرية الإسرائيلية ومحاولة الدخول إلى هذه المواقع ومصادقة المجندات في هذه الوحدات - لأنهن دائماً ما يكن الأقرب حباً للأطفال- فضلا عن قيام الاطفال ببيع الأطعمة ولبن الماعز لهن. وبالفعل أصبح السواركة "نجم" المعسكرات الإسرائيلية ووصل به الأمر إلى مصادقة الفتيات والرقص معهن بل والدخول إلى غرف نومهن للمزاح والحصول على الهدايا* وعلى الرغم من تعرض عدد من المجندات للعقاب بسبب استضافتهن للالسواركة إلا أنه كان محبوباً وصديقا للعشرات منهن في أغلب القواعد العسكرية. وبات صيته شائعا بين المجندات في إسرائيل خصوصا بين صغار السن* واللاتي أصبحن يعتمدن على الأطعمة التي يأتي بها. وكان يقوم بعد إنهاء مقابلاته في معسكرات الجيش الإسرائيلي بالذهاب إلى عمه وأعضاء المقاومة الشعبية المصرية في سيناء ويقص لهم عن كل ما شاهده في المعسكرات الإسرائيلية بداية من الأسلحة حتى أصحاب الرتب العسكرية التي بات يعرفها على الرغم من عمره الصغير حتى بالنسبة للكلام الجانبي الذي كان يردده الجنود من أصحاب الأصول الشرقية مع بعضهم البعض بالعربية.العين الأولىالغريب أن السواركة بات العين الأولى للمقاومة المصرية في المعسكرات الاسرائيلية خصوصا وان خدماته وصلت إلى كبار القادة العسكريين الذين باتوا يطلبون المنتجات الزراعية التي يحضرها من بيض ولبن لأنها أفضل من المنتجات التي يحضرها الجيش الإسرائيلي لهم.ومع مرور الوقت بات السواركة يتجول بحرية في جميع أنحاء المعسكرات الاسرائيلية واستطاع أن يكون العين الثاقبة التي ترى بها مصر قلب هذه المعسكرات* حتى أن كبار القادة في الجيش باتوا يطلبون معلومات من السواركة رأساً وهو ما لم يطلبوه من كبار العملاء واعتاهم.المثير أن هيئة الأركان المصرية استطاعت وبفضل هذا الطفل التعرف على التفاصيل الكاملة للعديد من المواقع العسكرية بداية من حقول الألغام التي أقامتها إسرائيل وكيفية السير وسطها الى الكشف عن الكثير من المواقع السرية الأخرى بداية من المطارات ثم منصات إطلاق الصواريخ التي كانت إسرائيل تحرص على إنشائها وسط جبال سيناء حتى لا يستطيع المصريون اكتشافها بسهولة.وبجانب هذه الانجازات استطاع معرفة تفاصيل الحياة داخل المعسكرات وموعد وصول الأسلحة إليها و عطلات القادة العسكريين ومواعيد عودتهم إلى عملهم بالاضافة إلى النقطة المهمة الأخرى والمتعلقة بمعرفة أنواع الأسلحة التي يستخدمها الجنود الاسرائيليون ووصفها ومعرفة امكاناتها القتالية ومحاولة رسم أي سلاح أو أي عتاد عسكري لا يستطيع أن يكتشف أسمه.وأمتاز الطفل في رسم أي سلاح إسرائيلي جديد لا يعرف أسمه حيث كان موهوباً في الرسم وكان ينقل شكل السلاح كما هو من دون تغيير* حتى أنه رسم صور العسكريين الإسرائيليين ممن كان يعرفهم بدقة متناهية. غير أن الانجاز الكبير هو وصف الطفل سواركه لجميع التجهيزات العسكرية داخل خط بارليف الذي كان يدخل إليه حتى أصبح هو المورد الرئيسي لما يرغب فيه العسكريون الذين يخدمون به من طعام أو مشروبات حتى أن كبار القادة الإسرائيليين كانوا يطلبون الطعام منه هو شخصياً لجودته وتأخر وصول الطعام إلى الوحدات العسكرية في كثير من الأحيان.وكان أسلوب السواركة في الحوار متميزا للغاية حيث اتسم بالسلاسة والفكاهة في آن واحد* وكان دائم الهجوم على مصر ويزعم أنه يكرهها وأن سياستها هي التي أدت إلى اندلاع حرب 1967 وهي الحرب التي تلقت فيها مصر ضربة موجعة.وكانت هذه الكلمات تسعد القادة الاسرائيليين الذين لم يتصوروا أبدا أن هذا الطفل يعمل مع المخابرات المصرية. ونجح السواركة في نيل ثقة هؤلاء القادة حتى أنه بات يقوم بتقديم الطعام إليى رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي عندما حضر لزيارة خط بارليف والاطمئنان على الجنود الذين يخدمون في الوحدات العسكرية* بالإضافة إلى رئيس وحدة العمليات في سيناء ووزير الدفاع موشيه ديان ذاته والتجسس عليهم ونقل المعلومات المهمة التي يشاهدها عندهم إلى القاهرة.وواجه السواركة مشكلة كبيرة تتلخص في كميات الطعام التي يجب أن يحصل عليها بكثرة خصوصا مع تزايد معارفه من الاسرائيليين خاصة مع عدم اكتفائه بالدخول إلى المعسكرات العسكرية ولكنه تخطاها ليصل إلى المنتجعات السياحية والمرافق المدنية التي أقامتها إسرائيل في سيناء. وهو ما جعل العشرات من البدو خصوصا ممن يعملون مع المقاومة المصرية يحرصون على تزويد السواركة بالطعام أولاً بأول.ارتباكويقول الكتاب أن مصر باتت تستفيد بصورة متميزة من المعلومات التي يزودها بها السواركة* وهو ما انعكس على المستوى القتالي للقوات المسلحة المصرية التي استطاعت بفضلها تكبيد إسرائيل العديد من الخسائر في حرب الاستنزاف. وكان الإنجاز الذي نجح فيه السواركة هو وضع أجهزة تنصت في غرف المجندين والقادة الاسرائيليين* وهي الأجهزة التي كانت على شكل قطع بلاستيكية شفافة ودقيقة للغاية لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة والتي ساعدت المصريين على معرفة جميع التطورات الحاصلة في غرف العمليات الاسرائيلية في سيناء.وكان الرئيس جمال عبد الناصر بنفسه ومن بعده الرئيس السادات يستمعون بأنفسهم إلى هذه التسجيلات ويعرفون عن طريقها من كبار القادة العسكريين أنفسهم المخططات الإسرائيلية العسكرية قبل ان تتم المصادقة عليها.وأصبحت القاهرة بفضل السواركة الذي أطلقت عليه المخابرات المصرية لقب »الجاسوس الطفل« على معرفة بكافة التطورات العسكرية المختلفة التي ينوي الإسرائيليون القيام بها وباتت العمليات التي يقوم بها محط اهتمام الكثير من الضباط ومسؤولي الجيش المصري* حتى أنهم لم يكونوا يقوموا بأي عملية إلا عقب الرجوع إلى السواركة.ولم يتوقف تميز السواركة عند هذا الحد بل نجح أيضاً في الكشف عن الكثير من العملاء المصريين ممن يعملون لصالح إسرائيل* ومن هؤلاء الجاسوس الخطير باروخ مزراحي الذي جندته إسرائيل ليتجسس على مصر واليمن وتم الإيقاع به بعد أن سمع المصريون بقصته من الاجهزة التي زرعها السواركة. ونتيجة لتفوق المصريين العسكري على الاسرائيليين على الرغم من الامكانيات العسكرية المتميزة التي كانت تتاح لهم أصدرت القيادة الاسرائيلية أوامر بالتحقيق مع جميع القادة والعسكريين في مختلف المعسكرات خصوصا وأن المصريين كانوا يعرفون وبدقة الخطوات العسكرية الاسرائيلية.وتم رصد جميع المترددين على معسكرات الجيش وهو ما أدى إلى إحاطة الشكوك بالسواركة الذي نصب له الاسرائيليون كميناً بوضع معلومات مغلوطة أمامه* وكانت عبارة عن الزعم بوجود قاعدة منصات لإطلاق صواريخ عسكرية في قلب الجبال في جنوب سيناء* ووضعت اسرائيل قاعدة مزيفة من الورق المقوى في هذا المكان وللأسف بلع الطفل الصغير الطعم وأرسل إلى المصريين هذه المعلومة وهو ما أدى إلى قيام مصر بتفجيرها بواسطة الطائرات فقامت إسرائيل بالقبض على هذا الطفل بعد هذه العملية بعدة ساعات.ولم يتحمل جسد الطفل الصغير التعذيب حيث حاول الاسرائيليون معرفة أعضاء حركات المقاومة المصرية في سيناء ممن كان يتعامل معهم ولكنه رفض الابلاغ عنهم وهو ما أدى إلى قتله في النهاية من وطأة التعذيب بعد أربعة أيام من وقوعه في الأسر* وعلى الرغم من هذا مازالت العمليات التي قام بها تصيب قادة جهاز الموساد بالغضب مع ترديدها* خصوصا بعد نجاحه كأصغر جاسوس عرفته أجهزة المخابرات و استطاع اقتحام قلب غرف العمليات الاسرائيلية في جرأة وبلا خوف.

ليست هناك تعليقات: